28‏/08‏/2012

عقولهم وبطوننا




عبدالله المغلوث - الوطن - كتاب كخه يا بابا


استقبلني بحفاوة مفرطة. حمل حقيبتي بمتعة وإخالني لو طلبت منه أن يحملني ما تردد. كان يرتدي ساعة رولكس فضية في معصمه الأيسر. ونظارة أنيقة من دون إطارات. هيئته توحي بأنه بائع مجوهرات عتيق وليس سائق سيارة أجرة. فور أن امتطينا السيارة سألني عن وجهتي بصوت خفيض وعندما أجبته شكرني بإسراف كأنني أهديته مليونا.

لم يفاجئني السائق الذي استقبلني في مطار لوس أنجلوس قبل 6 سنوات بكريم خصاله وطيب سجاياه بقدر ما فاجأتني صورة شخصية ضخمة بالأبيض والأسود غرسها أمام مقعدي مباشرة، لشخص يشبه القضاة الإنجليز الأوائل: شنب كثيف، ولحية شقراء كثة، وملامح صارمة. وعندما هزمني فضولي سألته عن هوية صاحب الصورة. فابتسم لبرهة كأنه سمع نبأ سعيدا ثم قال بانشراح:" إنه مخترع التخدير، ويليام مورتون." سعادته الهائلة التي استلقت في أعماقه وانهمرت مع صوته أحستني أنه كان ينتظر هذا السؤال منذ أمد بعيد.

بهجته التي فاحت في أرجاء السيارة دفعتني إلى سؤال آخر: لماذا تضع صورته على وجه التحديد في سيارتك؟ فأجابني على جناح السرعة قائلا: "لأنه لو لم يقم بهذا الاختراع لاستمر الأطباء في ضربنا بمطرقة خلف الجمجمة؛ لنفقد الإحساس والوعي لفترة وجيزة قبل إجراء العمليات الجراحية."

لم يكن هذا التبرير الوحيد الذي ساقه السائق جيم كرير. فلسانه ظل يركض، ويلهث طوال الطريق مادحا مورتون كأنه يخشى أن نصل دون أن يكمل حديثه عنه. في حين كنت أصغي إليه دون أن أقاطعه، وأفسد العرس الذي اندلع في وجهه. وعند وصولنا إلى شقة صديقي، ترجل من السيارة، وفتح لي الباب ثم أخرج من جيبه بطاقة تحمل اسمه وهاتفه وفيلماً عن مورتون في (سي دي). وحينما حاولت أن أعطيه أجره رفض بشدة جازما أن إنصاتي له هو الأجرة التي يبتغيها والمكافأة التي يشتهيها. وعندما أصررت على دفع أجرته وافق بشرط أن أتصل عليه عندما أنتهي من مشاهدة الفيلم الذي أهداني إياه.

وبالفعل هاتفته بعد أن شاهدت الفيلم. وعبرت له عن امتناني الغفير له ولمورتون. فشكرني شكرا طويلا لم يقطعه سوى جملة أودعها في أذني ولم تجف بعد:"إنني أفتش عن غير الأمريكيين في المطارات؛ لكي أقول لهم إن أمريكا ليست مجرد بنتاجون وبوش وملاه. إنها بلد أنجبت أعظم الاكتشافات. أرجو أنك لمست ذلك"

جيم كرير لم يكن سائقا فحسب بل رسام مبدع يقضي جل يومه في مرسمه بين ريشته وألوانه.
في دفتر يومياتي قصة مشابهة ولكن مع اختلاف المكان والزمان. هذه المرة قبل عامين عندما كنت في أعلى قمة في برج شمال سول في كوريا الجنوبية، يرتفع 1574 قدما عن سطح الأرض. كنت أسبح في السماء ليلا، وأتصفح الشوارع الحافلة بالسيارات من أعلى القمة وهي زاخرة بالأضواء كأنها كعكة شوكولا مطرزة بشموع لا تنتهي. كما بدت السيارات صغيرة تركض كأنها تهرب من بعضها. وفي غمرة انهماكي في هذا المشهد فإذا بشاب كوري وادع يبتسم في وجهي ويسألني إذا كنت أملك 10 دقائق ليتكلم معي ومن معي. لم أتردد في قبول دعوته للحديث لاسيما بعد أن هز رفيق رحلتي رأسه معبرا عن موافقته هو الآخر.

هبطنا مع الشاب الكوري، الذي لفتني شعره الهائج وحقيبته الضخمة ،إلى الدور الأرضي للبرج الذي تقطنه المقاهي والمطاعم الصغيرة. اخترنا أول مقهى. بسطنا أجسادنا على كراسيه وطلبنا مشروبات ساخنة مختلفة. ثم قدم الشاب الكوري نفسه كطالب طب يدرس في جامعة سول ويحرص على زيارة المرافق السياحية في بلده ومساعدة السياح كلما سنحت له الفرصة. شكرته ورفيقي على اهتمامه ودعوته وأكدنا له عدم حاجتنا لمساعدته في الوقت الراهن. لكنه فجعنا عندما قال:"أنا من أحتاج إلى مساعدتكم؟" تحسسنا أجنحتنا لنطير خشية أن يطلب نقودا؟ لكن عدلنا عن تحليقنا عندما استدرك وقال إنه بحاجة إلى آذاننا فقط. وسألنا فقط أن نسمع منه سيرة مقتضبة للمهندس المعماري الكوري كيم سوو جون(20 فبراير 1931 - 14 يونيو 1986)،أحد أهم المعماريين الذين أنجبهم الشرق الأقصى.

وخلال أقل من 10 دقائق استعرض أمامنا بعض إنجازات كيم سوو المعمارية الخالدة على عجل عبر صور أخرجها من حقيبته ومازالت رطبة في ذاكرتي. وهي تمثل: إستاد سول الأولمبي في جامسيل عام 1977م. و متحف تشيونجو الوطني في تشيونجو عام 1979م. و المتحف الوطني للعلوم عام 1984م. ومركز الحرية في جونغ غو عام 1963م. ومبنى السفارة الأمريكية في سول عام 1983م.

كما قطف من بستان ذاكرته أزكى المباني المعمارية التي أشاعتها مجلة (الفضاء) التي أسسها سوو عام 1966م، وهي أول مجلة تعنى بالفن والتراث الكوري في كوريا الجنوبية. كما أهدانا قبل أن نغادره مجموعة مسرحيات من إنتاج مسرح (حب الفضاء) الذي أسسه سوو أيضا في عام 1979م.

ودعنا الشاب الكوري رويو كيم وون لكن لم تودعنا كلماته الأخيرة التي قال فيها"إننا نملك أناسا عظيمين. إننا نملك مجدا يجب أن نشيعه ونزهو به". ولو قرأ كيم شعرنا العربي لاستعار هذا البيت الشهير:

لا ينزل المجد إلا في منازلنا *** كالنوم ليس له مأوى سوى المقل

في المقابل، أحزن كلما أتذكر العرض الذي قدمه أحد أبناء جلدتي عن "الكبسة" في جامعة دنفر، على هامش معرض أيام في الشرق الأوسط قبل عدة سنوات، والذي حضره أعضاء هيئة تدريس قسم العلوم السياسية. كما يسكنني الظلام كلما تذكرت بعض البرامج التي يقدمها إخواننا في جامعات العالم خلال اليوم الوطني والتي تتركز حول لباسنا التقليدي وأكلاتنا الشعبية.

لدينا قصص إيجابية جديرة أن تروى. علينا أن نستعرضها متى ما أتيحت لنا الفرصة. علينا أن نبتكر ونخترع مناسبات نروج عبرها عن مبدعينا وثقافتنا كما يفعل جيم كرير ورويو كيم وون ليرى العالم أن لدينا عقولا وليس مجرد بطون!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق